سورة الصف - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الصف)


        


{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)}
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى} أي محمدا بالحق والرشاد. {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي بالحجج. ومن الظهور الغلبة باليد في القتال، وليس المراد بالظهور ألا يبقى دين آخر من الأديان، بل المراد يكون أهل الإسلام عالين غالبين. ومن الإظهار ألا يبقى دين سوى الإسلام في آخر الزمان. قال مجاهد: وذلك إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض دين إلا دين الإسلام.
وقال أبو هريرة: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ بخروج عيسى. وحينئذ لا يبقى كافر إلا أسلم.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد».
وقيل: لِيُظْهِرَهُ أي ليطلع محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سائر الأديان، حتى يكون عالما بها عارفا بوجوه بطلانها، وبما حرفوا وغيروا منها. عَلَى الدِّينِ أي الأديان، لان الدين مصدر يعبر به عن جمع.


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ} قال مقاتل: نزلت في عثمان بن مظعون، وذلك أنه قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو أذنت لي فطلقت خولة، وترهبت واختصيت وحرمت اللحم، ولا أنام بليل أبدا، ولا أفطر بنهار أبدا! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن من سنتي النكاح ولا رهبانية في الإسلام إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله وخصاء أمتي الصوم ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم. ومن سنتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم فمن رغب عن سنتي فليس منى». فقال عثمان: والله لوددت يا نبي الله أي التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها، فنزلت.
وقيل: أَدُلُّكُمْ أي سأدلكم. والتجارة الجهاد، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ} [التوبة: 111] الآية. وهذا خطاب لجميع المؤمنين.
وقيل: لأهل الكتاب.
الثانية: قوله تعالى: {تُنْجِيكُمْ} أي تخلصكم {مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} أي مؤلم. وقد تقدم. وقراءة العامة تُنْجِيكُمْ بإسكان النون من الإنجاء. وقرأ الحسن وابن عامر أبو حيوة {تنجيكم} مشددا من التنجية. ثم بين التجارة وهى المسألة: الثالثة: فقال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} ذكر الأموال أولا لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق. {ذلِكُمْ} أي هذا الفعل {خَيْرٌ لَكُمْ}/ 11 من أموالكم وأنفسكم {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. وتُؤْمِنُونَ عند المبرد والزجاج في معنى آمنوا، ولذلك جاء يَغْفِرْ لَكُمْ مجزوما على أنه جواب الامر.
وفي قراءة عبد الله {آمنوا بالله} وقال الفراء يَغْفِرْ لَكُمْ جواب الاستفهام، وهذا إنما يصح على الحمل على المعنى، وذلك أن يكون تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ عطف بيان على قوله: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ كأن التجارة لم يدر ما هي، فبينت بالايمان والجهاد، فهي هما في المعنى. فكأنه قال: هل تؤمنون بالله وتجاهدون يغفر لكم. الزمخشري: وجه قول الفراء أن متعلق الدلالة هو التجارة والتجارة مفسرة بالايمان والجهاد. كأنه قيل: هل تتجرون بالايمان والجهاد يغفر لكم. قال المهدوي: فإن لم تقدر هذا التقدير لم تصح المسأله، لان التقدير يصير إن دللتم يغفر لكم، والغفران إنما نعت بالقبول والايمان لا بالدلالة. قال الزجاج: ليس إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا. وقرأ زيد بن علي تؤمنوا، وتجاهدوا على إضمار لام الامر، كقوله:
محمد تفد نفسك كل نفس *** إذا ما خفت من شيء تبالا
أراد لتفد. وأدغم بعضهم فقال: يَغْفِرْ لَكُمْ والأحسن ترك الإدغام، لان الراء حرف متكرر قوي فلا يحسن إدغامه في اللام، لان الأقوى لا يدغم في الأضعف.
الرابعة: قوله تعالى: {وَمَساكِنَ طَيِّبَةً} خرج أبو الحسين الآجري عن الحسن قال: سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن تفسير هذه الآية وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فقالا: على الخبير سقطت، سألنا رسول الله صلى الله عيلة وسلم عنها فقال: «قصر من لؤلؤة في الجنة فيه سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زبر جدة خضراء في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش سبعون امرأة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من الطعام في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة فيعطي الله تبارك وتعالى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله». فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أي إقامة. {ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي السعادة الدائمة الكبيرة. واصل الفوز الظفر بالمطلوب.
الخامسة: قوله تعالى: {وَأُخْرى تُحِبُّونَها} قال الفراء والأخفش: أُخْرى معطوفة على تِجارَةٍ فهي في محل خفض.
وقيل: محلها رفع أي ولكم خصلة أخرى وتجارة أخرى تحبونها {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ} أي هو نصر من الله، ف {نَصْرٌ} على هذا تفسير {وَأُخْرى}.
وقيل: رفع على البدل من أُخْرى أي ولكم نصر من الله. {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} أي غنيمة في عاجل الدنيا، وقيل فتح مكة.
وقال ابن عباس: يريد فتح فارس والروم. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} برضا الله عنهم.


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)}
أكد أمر الجهاد، أي كونوا حوارى نبيكم ليظهركم الله على من خالفكم كما أظهر حواري عيسى على من خالفهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع أنصارا لله بالتنوين. قالوا: لان معناه اثبتوا وكونوا أعوانا لله بالسيف على أعدائه وقرأ الباقون من أهل البصرة والكوفة والشام أَنْصارَ اللَّهِ بلا تنوين، وحذفوا لام الإضافة من اسم الله تعالى. واختاره أبو عبيدة لقوله: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ ولم ينون، ومعناه كونوا أنصارا لدين الله. ثم قيل: في الكلام إضمار، أي قل لهم يا محمد كونوا أنصار الله.
وقيل: هو ابتداء خطاب من الله، أي كونوا أنصارا كما فعل أصحاب عيسى فكانوا بحمد الله أنصارا وكانوا حواريين. والحواريون خواص الرسل. قال معمر: كان ذلك بحمد الله، أي نصروه وهم سبعون رجلا، وهم الذين بايعوه ليلة العقبة.
وقيل: هم من قريش. وسماهم قتادة: أبا بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير وسعد بن مالك وأبا عبيدة- واسمه عامر- وعثمان بن مظعون وحمزة بن عبد المطلب، ولم يذكر سعيدا فيهم، وذكر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. {كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ} وهم أصفياؤه اثنا عشر رجلا، وقد مضت أسماؤهم في آل عمران، وهم أول من آمن به من بني إسرائيل، قاله ابن عباس.
وقال مقاتل:
قال الله لعيسى إذا دخلت القرية فأت النهر الذي عليه القصارون فاسألهم النصرة، فأتاهم عيسى وقال: من أنصاري إلى الله؟ قالوا: نحن ننصرك. فصدقوه ونصروه. ومعنى من أنصارى إلى الله أي من أنصاري مع الله، كما تقول: الذود إلى الذود إبل، أي مع الذود.
وقيل: أي من أنصاري فيما يقرب إلى الله. وقد مضى هذا في آل عمران {فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ} والطائفتان في زمن عيسى افترقوا بعد رفعه إلى السماء، على ما تقدم في آل عمران بيانه. فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم الذين كفروا بعيسى. فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أي غالبين. قال ابن عباس: أيد الله الذين آمنوا في زمن عيسى بإظهار محمد على دين الكفار.
وقال مجاهد: أيدوا في زمانهم على من كفر بعيسى. وقيل أيدنا الآن المسلمين على الفرقتين الضالتين، من قال كان الله فارتفع، ومن قال كان ابن الله فرفعه الله إليه، لان عيسى بن مريم لم يقاتل أحدا ولم يكن في دين أصحابه بعده قتال.
وقال زيد بن علي وقتادة: فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ غالبين بالحجة والبرهان، لأنهم قالوا فيما روي: ألستم تعلمون أن عيسى كان ينام والله لا ينام، وأن عيسى كان يأكل والله تعالى لا يأكل!.
وقيل: نزلت هذه الآية في رسل عيسى عليه الصلاة والسلام. قال ابن إسحاق: وكان الذي بعثهم عيسى من الحواريين والاتباع فطرس وبولس إلى رومية، واندراييس ومثى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس. وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق. وفيلبس إلى قرطاجنة وهي إفريقية. ويحنس إلى دقسوس قرية أهل الكهف. ويعقوبس إلى أوريشلم وهي بيت المقدس،. وابن تلما إلى العرابية وهي أرض الحجاز. وسيمن إلى أرض البربر. ويهودا وبردس إلى الإسكندرية وما حولها. فأيدهم الله بالحجة. فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أي عالين، من قولك: ظهرت على الحائط أي علوت عليه. والله سبحانه وتعالى اعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

1 | 2 | 3